"كان يوما طويلا".. هكذا قررتُ أن أبدأ كتابتى عن اليوم، حتى بدأت، فعدلت. لا. لم يكن يوما طويلا، بل كان فى قِصر حلم لم يتبقى منه سوى عطر، وراحة فى حفنة ذكريات..
11:00 صباحاً، آخد التعليمات.
- "مش عايزك تتضايقى.. بس أكيد كدة ح تتأخرى"..
أجرى لآخر الشارع حتى الموقف، تداعبنى لسعة شمس يناير. لحسن حظى لم أنتظر كثيراً. جلستُ بجانب النافذة. الطريق طويل. هممت بالقراءة. أغوص فى أوراق "قطعة من أوروبا" أكثر فأكثر، حتى أنستنى حرارة الجو للأنفاس المكتظة من حولى. سحرٌ غريب يعترينى كلما قرأت شيئا من او عن الماضى، كإنه حلمٌ آخر تمنيت لو كان لى. لك أن تتخيل عزيزى مصر ايام الملك.. كانت كقطعة من أوروبا!..
"حين استقل فاروق "المحروسة" من ميناء الإسكندرية فى يوليو عام 1952، كنا فى القاهرة، نسكن فى بناية من اربعة طوابق فى شارع قصر النيل. مازالت البناية قائمة، أمر بها أحيانا، ارفع رأسى لاتأمل شرفاتها، الشرفات الصغيرة المقوسة التى تحيط كالحلية بنوافذ كبيرة، والشرفات المستطيلة، الأطول والأوسع، لكل شرفة منها سور من مشغول الحديد، قُضُب دقيقة تتفرّع وتفترق وتلتقى فى أشكال نباتية، أعبر الشارع لتسمح لى المسافة برؤية المبنى كاملا. أعبره مرة أخرى لاختلاس نظرة إلى مدخل من مداخله. أستعيد وقفتى وحدى أو مع أمى أو أبى أو إخواتى فى الشرفة، أمامنا ممر بهلر وأقواس بواكيه على جانبيه، عن يميننا امتداد شارع سليمان باشا نكتشف جزءا من دائرته والتمثال البرونزى فى مركزه، ومفرقين من مفارقه الأربعة، وعمارة جروبى ومدخل محل تعلوه كلمة "جروبى 1924"، ولافتة كبيرة تحمل الاسم مكتوبا بالحروف الاتينية تتبعه عبارة "Confisserie de la maison royale"."
- "ممكن تفتحى الشباك لو سمحتى"..
قاطعنى صوت مباغت لرجل يجلس خلفى. كل مرة يبدأ أحدهم الحوار يفاجئنى ويأخذنى على غرة من أمرى، رغم انتظارى له، وتشوقى لبدئه فى أى وقت.
- "طبعاً قوى قوى.."
وعدت أقرأ.. ولكن عاد صوته يحادث رجلاً آخر جالس بجواره.. طأطأت رأسى وآذانى قليلا.. إلتفت... وقاطعتُ الحديث..
- "المشكلة فى رأيي.. فى ان المصريين لم يصلوا لمرحلة الرفاهية بعد، اللى تخليهم يبحثوا عن صيانة الأجهزة، زى تكييف السى تى إيه دا مثلا.. وبالتالى قيس عليها صحة البنى آدمين.."
- "حطى كلمة "رفاهية" بين قوسين، وارسمى تحتها خمس خطوط .. صحيح لو غسالة باظت فى بيت مصرى دلوقتى ح تخرب ميزانية الشهر، لكن ما تنكريش اننا كشعب عندنا ثقافة "كله فل".. اى شئ يقضى الغرض.. حتى لو فى قمة مرضك راح تقول "صحتى زى الفل".."
ممم.. فكرت قليلا. ربما كان على صواب هذا الغريب هذه المرة. ربما أخطأت الحوار. ربما...
- "شوف.. دا رابع انسان اشوفه نايم على الرصيف فى أقل من 500 متر.."
قالها الرجل المسن الآخر، الجالس بجوار الأول. على وجهه يظهر أعراض هذا المرض الغريب الذى يأكل من لون البشرة، ويجعلها لوحة سريالية بالألوان القمحى منها والأبيض.. مصاحب دائما لرعشة خفيفة على كلتا اليدين..
- "انتى عارفة يا آنسة، لو كنا فى بلد غير دى... كان مستحيل تشوفى ناس فى الشارع كدة.. وحتى لو حصل، مايقعدوش باليوم والاتنين والشهر والسنة على دا الحال.. كانت عربية مخصصة من الدولة تيجى تاخدهم وترعاهم فى مكان لهم.."
- "انت بتتكلم عن ايه.. مصر.. مصر دى غنية.. مش بس بأولادها، انما هى غنية بثرواتها فعلا.. لكنهم..".. همهم قليلا كإنه يحاول التذكر عبر عصور ولت وطوت من صفحاتنا. تظهر فى افقنا الآن كأنها لم تكن.. "بما ان شكلك بيحب يقرأ أكيد عارفة جورج برنارد شو، كان كاتب انجليزى ساخر.."
- "طبعا ودرست له كمان.."
- "ألسن؟"
- "هندسة.. اتصالات.."
- "لغة العصر.. عشان كدة عملتى معانا كونكشن بسرعة".. وقهقه الإثنان عاليا.. "المهم ايام ما كان "شو" اصلع صلع أبيض رهيب.. ودقنه طويلا جدا.. عملت معاه صحفية لقاء، وكانت ملاحظتها عن دا.. فرد عليها.. غزارة فى الإنتاج، وسوء توزيع.. بفتكر مصر دايما بالموقف دا.."
- "انت عارف يا أستاذ..".. تحدث الرجل العجوز الآخر.. وفى يده نفس الرعشة تزيغ بصرى عنه، فاحاول الأنتباه سريعا دون أن يلاحظنى.. "عند شغلى، مرة ولد بيعدى الشارع، وجت عربية صدمته.. ومن سرعتها ما انتظرتش ودهسته تانى بعجلاتها الخلفية.. لقيت الناس مش عارفة تفكر تعمل ايه.. روحت لعربية شرطة واقفة جانبنا وقولت لها، ردوا عليا انهم وراهم مهمة تانية.. وسابونا ومشيوا.."
- "شرطة وعسكر.. تبع أفراد.."
وكان الصمت يتغلله صوت "التكييف الخربان" من جديد.. لعله حزنا.. لعله غوصا.. لعله اطراقا أو تفكيرا.. فقط كان الصمت وفاصل..
"مساء يوم الجمعة 25 يناير عرفت عن طريق الإذاعة بخبر مذبحة الإسماعيلية (حاصرت الدبابات والمدافع والمصفحات البريطانية مبنى المحافظة والثكنات المتاخمة لها، ووجه قائد القوة إنذارا لبلوكات النظام المصريين فى المبنى يطالبهم أن يتكروا سلاحهم ويغادروا خلال ساعتين. رفض المصريون الإنذار فضربهم بالمدافع؛ قاوم المصريون بما لديهم من بنادق حتى نفذت ذخيرتهم، استشهد منهم خمسون، وجرح ثمانون، وأسر ألف، ودمر مبنى المحافظة). قرأ المذيع بيان وزارة الداخلية، ثم اذاع نداء من طه حسين، وزير المعارف، بمناسبة استئناف الدراسة فى اليوم التالى. توجه طه حسين إلى الطلبة وأولياء الأمور والنظّار والأساتذة، طالبهم بضرورة الهدوء والمحافظة على النظام.
قضيت مساء الجمعة فى انتظار صباح السبت. "
- " ممكن أعرف بتقرأى ايه؟"
- "آه.. طبعا طبعا.. "قطعة من أوروبا.."" ثم رفعت له الكتاب حتى يرى الغلاف..
- "رضوى عشور.. دا عن الثورة وحكايات وسط البلد.. كتاب رائع.."
- "بدأت أكتشف الحقيقة.."
- "فاكر ميدان رمسيس زمان؟.." قالها الرجل الآخر..
- "عمارات علب الكبريت الجبس بوظت كل ما يمت للذوق العام... تمثال رمسيس موجود من أيام الفارعنة "زى الفل".. قعد معانا خمسين سنة، بهدلناه"..
وزارنا الصمت من جديد..
- "تعرف فين بنك مصر فرع القاهرة..؟"..
وقتها تركت الحديث.. وعدت للكتاب لكن أفكر. هل كان حقا زمناً جميلا؟.. وهل مصرُ التى أعشقها كانت أبهى مما هى عليه الآن؟.. ماذا كان سيحدث لو لم أولد الآن، وكنت فى زمانهم؟ هل كنت سأحبها أكثر أم.. لا أستطيع التفكير.. قاطعنى الرجل الأول مرة أخرى، لكن مودعاً. تابعته وهو يغيب عن أنظارى وسط جموع البشر فى الشارع.. ورجعت لفكرى مسافرة..
مسافة ثانية، ثم وقفت.. ودعت الرجل الآخر. إختفيت وسط جموع نفس البشر، وتركته فى المواصلة يستكمل الطريق..
12:30
تقابلنا.
كان الإتفاق على أن نتقابل فى الثانية عشر للانتهاء من بعض الإجراءات فى النقابة.. وكعادتى الاصيلة، تأخرت. تهت قليلا فى الإتجاهات. لستُ خبيرة بالشوارع بما يكفى. أحتاج وقت، بل أوقات، آتى لأتفرس الشوارع والحوارى والأزقة.. أحفظ شكل البنايات والمحال والوجوه.. أحتاج وقت دوما.. لكنه دوما الوقت، عدوى اللدود.
2:00
انتهت مهمتنا بنجاح، رغم روتينية النظام بالنقابة وطول الطوابير!..
لم نعد الخطة مسبقا، ولم نسبق الموقف بالتفكير فى مكان نذهب اليه، فكان الإقتراح "نمشى لميدان التحرير"..
فى المطعم جلسنا.. ولا أعرف –إلى الآن- من أين تأتى الكلمات. فقط تتركنا نتحدث، ونتحدث.. بدأناه كأننا لم ننتهى منه بعد. سالنا عن الأحوال، وحالة الجو.. نقلب فى ذكريات المدرسة والكلية وتقلبات العمر.. نرقص على أوتار الوقت، كأننا مسنتان فى مقتبل العمر..
شطرنا ورقة الحساب نصفين.. وكتبت لها على ظهر جزئها..
"الى صديقة عمرى.. فى ذكرى ميدان التحرير، الإسماعيلية سابقا.. 20 يناير 2008"
وعند محطة المترو كان ميعادنا مع الفراق..
4:00
جائتنى لمبة علاء الدين.. نورت.. فقررتُ فجأة.. "سازور مكتبة الديوان الجديدة"..
أفرح دائما بالقرارات الفجائية..
غيرت الأوتوبيس من محطة عبد المنعم رياض، واخذت آخر.. جلست جانب النافذة، وفتحت الكتاب..
"رفض العمال المصريون تسيير قطار ينقل الجنود وعتادهم إلى مدن القنال (أرسلت بريطانيا ثلاث ناقلات جنود تحمل ثلاثة آلاف فرد من عسكرها ردا على إلغاء المعاهدة). لم يسر القطار إلى مقصده. امتنع سائق القطار عن تسييره، امتنع مساعده، وامتنع العمال عن تزويده بالوقود.
دارت العجلة: رفض العمال شحن وتفريغ السفن البريطانية. ترك العاملون أشغالهم فى المعسكرات وغادروا. أضرب المتعهدون والموردون. قاطع التجار معسكرات جيش الإحتلال. فى الإسماعيلية: خرج الأهالى فى مظاهرات حاشدة تأييدا لإلغاء المعاهدة. احتل عسكر الإنجليز المدينة بالسيارات المصفحة. أطلقوا النار على الأهالى.
سبعة شهداء وأربعون جريحا.
فى نفس اليوم، مظاهرات فى بورسعيد. هجوم بريطانى. أضرم المتظاهرون النار فى مخازن البحرية البريطانية.
خمسة شهداء والكثير من الجرحى.
فى اليوم التالى احتلت القوات البريطانية مكاتب الجمارك والجوازات و الحجر الصحى والحجر الزراعى فى المدينتين. عَطلت المواصلات. استولت على خط السكة الحديد. احتلت كوبرى الفردان.
بعد ثلاثة أيام احتلت جمرك السويس. حاصرت مدن القناة وقراها. أقامت حواجز تفتيش.
بعد أقل من اربعة اسابيع، الإسماعيلية مرة اخرى: أطلقت القوات البريطانية النار على بلوكات النظام.
ثلاثة عشر شهيدا وثلاثة عشرون جريحا.
السويس، بعد اسبوعين:
ثمانية وعشرون شهيدا وسبعون جريحا.
فى اليوم التالى شيعت السويس شهداءها، خمسة عشر نعشا خرجت تباعا من المستشفى محمولة على الأكتاف. أطلق الإنجليز النار.
خمسة عشر شهيدا وتسعة وعشرون جريحا."
دمعت عينى. أغلقت الكتاب. وعند المكتبة نزلت.
4:30
مكان واسع. فيللا بدوران. حميمة بدفئ ربما لم أشعر به منذ زمن. أدور بين الأرفف على أشياء لا أعرفها، وإن عرفتها لا افهمها بعد.
أبحث عنى وسط الورق..
- "من فضلك، فين الاقى كتاب نون؟"..
- " أدور لحضرتك.. أظن انه خلص.." لحظات ويعود.. "بعت آخر نسخة أول إمبارح للاسف.."
ألف فى المكان ثانية... احاول التذكر. أفشل. أحاول مرة أخرى. يعاودنى الفشل. شئ مستفذ أن تنسى وأنت فى قمة محاولتك لاستدراك أشياء ضالة طريق الذاكرة.
- "حضرتِك بتدورى عن كتاب معين.."
- "المفروض... بس نسيت العناوين."
- "بتحبى أى أنواع الكتب؟"..
- "ممكن نقول، أدبى تاريخى.. أو أدبى فلسفى. ومايمنعش لو اجرب جديد اسمع انه يستحق."
- "أنصحك برضوى عشور.. ثلاثية غرناطة.."
أُبهت فى مكانى للحظات..
- "أكيد!.. لكن لسا جيباه اول امبارح من مكتبه أخرى وخلصت "تقارير السيدة راء".. معجبنيش.. اللى عجبنى "قطعة من أوروبا" بقرأه حاليا.."
- "ورينى اخترتى ايه.."
امده بكتاب.. "الأعمال الكاملة لبهاء طاهر"..
- "بهاء طاهر.. واحة الغروب؟.."
- "طبعا.. رائعة.. قراتها أيام النسخة الأرخص لدار الهلال".
- "لازم تجربى أمين معلوف.. سمر قند.."
- "سمعت عنها كتير.. أجربها."
استمر الحوار طويلا.. احساس جميل، بل لا يوصف جماله عند دخول مكتبة ما، تشعر برهبتها من القائمين عليها. الكتب ليست اشياء على الرفوف، ولامتوجة فى فترينات العرض. بل هم أصدقاء يعينونا على معايشة الوقت.. وفهم الزمن.
5:45
"الأعمال الكاملة" بهاء طاهر.. "باب الشمس" إلياس خورى.. "ماذا حدث للمصريين" جلال أمين..
دفعت الحساب.. انصرفت.. مشيت باقى الطريق.. ركبت مواصلة اخرى.. غابت الشمس وزادة برودة السماء.. حاولت التذكر وتعجبت.. كيف عشتُ حلماً كهذا.. بل وكيف تذكرت..
------------
بى اس:- المقتطفات من كتاب "قطعة من أوروبا" لرضوى عشور।
- العنوان من أغنية "إنت عمرى" أم كلثوم، أحمد شفيق كامل، محمد عبد الوهاب... صاحبتنى وقت كتابة هذه التدوينة।