نظرت الى حلاق الصحة مليا وأدركت أن أرواح الناس فى مصر لا قيمة لها. لأن الذين عليهم أن يفكروا فى هذه الارواح لا يفكرون فيها إلا قليلا.
ووضع أمامى ملفات قرأت على غلاف أحدها قضية "قمر الدولة علوان". فتذكرت أن الفاعل فى هذه القضية لم يعرف. لم يعرف، طبعاً لم يعرف ولن يعرف وكيف يراد منا أن نعرف متهما فى قضية غامضة كهذه القضية وكل من المأمور والبوليس (ملبوخ) من رأسه الى قدمه فى تزييف الانتخاب، وأنا (ملبوخ) فى قراءة شكاوى وجنح ومخالفات وحضور جلسات! لو أن لدنيا "بوليس سرى" على النظام الحديث، وقاضى تحقيق، ينقطع لقضايا الجنايات كما هو الحال فى أوربا والعالم المتحضر! إنهم هناك ينظرون الى أرواح الناس بعين الجد. أما هنا فلا أحد يأخذ ذلك على سبيل الجد. وإن الأموال لتنفق هنا بسخاء فى التافه من الأمور، وأما إذا طلبت لأقامة العدل أو تحسين حال الشعب فإنها تصبح عزيزة شحيحة تقبض عليها الأكف المرتجفة كأنها ستلقى فى البحر هباء. ذلك أن "العدل" و "الشعب" ... الخ الخ. كلمات لم يزال معناها غامضاً عن العقول فى هذا البلد. كلمات كل مهمتها أن تكتب على الورق وتلقى فى الخطب كغيرها من الألفاظ والصفات المعنوية التى لا يحس لها وجود حقيقى فلماذا ينتظر منى أنا أن آخذ على سبيل الجد روح "سى قمر الدولة علوان"؟! إن هذا المجنى عليه قد مات وانتهى مثله مثل غيره من مئات المجنى عليهم فى هذا المركز والمراكز الأخرى فى القطر، ذهب دمهم جميعا أرخص من المداد الذى حبرت به محاضر قضاياهم، وانتهى ذكرهم عندنا "رسمياً" بذلك الاجراء الأخير البسيط: "تحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل ويكتب للمركز باستمرار البحث والتحرى" فيجيب المركز بعبارة مألوفة محفوظة يحررها كاتب الضبط فى حركة آلية وهو يقطم "شرش جزر"! "جارين البحث و التحرى..." وهى كلمة الوداع التى تقبر بها القضية نهائياً.
أجزاء من رواية "يوميات نائب فى الأرياف"
كتبها توفيق الحكيم فى 1937
سلاماتى